وثيقة تنشر لأول مرة حول ملابسات "بيع" البايات العثمانيين تونس للفرنسيين مقابل أموال أنفة على الجواري والغلمان
حجم الخط
تحقيق الدكتور محمد فوزي المستغانمي: احتفظت الذاكرة، وهي انتقائية بالأساس، بأنّ معاهدة الحماية أتت بعد اقتحام القوات الفرنسية الأراضي التونسية في أواخر افريل 1881 بتعلة تأديب القبائل التخومية بالشمال الغربي التي دأبت على مهاجمة الأراضي الجزائرية الخاضعة للاحتلال الفرنسي. كما تغاضت هذه الذاكرة الجماعية عن التسائل عن سبب تأخر رد فعل القبائل وإعلان الثورة المسلحة التي انطلقت في أواخر جويلية من نفس السنة.. ↔
ومن المسائل التي لا تظهر كثيرا في الحوارات حول الاستعمار الفرنسي وفرض نظام الحماية هو دور الدولة العثمانية، فهل فوجئت هي الأخرى بالحملة؟ أم أنها تغاضت لعجزها أو تواطئها، لاسيما أنّ فرنسا وقفت إلى جانبها في حربها ضد روسيا سنة 1854-1856 (حرب القرم)؟ فالدولة العثمانية لها مواقف مشابهة لاسيما بالنسبة لما حصل بالأندلس (استنجاد أهل غرناطة بالدولة العثمانية 1492) أو بايالتها بالجزائر سنة 1830 (الاحتلال الفرنسي). فهل كانت الدولة العثمانية على علم بالتهديدات التي تعيشها تونس وأسبابها الحقيقية؟ وهل اقتصر المبررات على إغارات القبائل أم أن هناك عوامل مفسرة أخرى؟
تقرير لمحمد الصادق باشا باي حول الأوضاع في تونس قبل شهر من فرض الحماية:
هذه الوثيقة التي ننشرها لأول مرة وهي مراسلة من محمد الصادق باشا باي إلى سعيد باشا رئيس الوزراء بالدولة العثمانية عبارة عن تقرير عن الأوضاع التي تعيشها بالبلاد التونسية والتهديدات التي تحدق بها بتاريخ 8 أفريل 1881 أي شهر وأربعة أيام قبل فرض الحماية.
“الجناب العالي الموشح بصنوف المعالي فخر الأعيان أهل الرفعة والشأن ومن لا يختلف في كملاته اثنان المشير الأفخم السيد سعيد باشا رئيس الوزراء لا زال عالي المقدار جميل الآثار أما بعد التحية المناسبة لهاته الرتبة العلية فالمنهي لجلالتكم العالية إنا لم نزل على ما يعهده رفيع جنابكم من مجاملة نواب الدول بهذه الايالة بقدر الاستطاعة والتحفظ بغاية الجهد من الأسباب التي تفضي إلى النزاع معهم بكل ما لا يمس حقوق الدولة العلية بهذا القطر وحقوق معظم قدركم كما ان الايالة والمنة لله تعالى في هناء وراحة يتمتع بها الأجانب كلهم تمتع أهاليها في الانتفاع بالمتاجر وملك ما يسوغ لهم ملكه وقد ظهر منذ مدة تعاطي أسباب تفضي إلى التعب منها أنا كنا منحنا لكمبانية انقليزية عمل طريق حديد من تونس إلى حلق الوادي ومنها إلى المرسى واستمرت خدمته مدة ظهرت نتيجتها كما سبق تقرير ذلك للأبواب العلية فيما سلف ثم إنّ هذه الكمبانية عرضت هذه الطريق للبيع فوقع نزاع بين كمبانية فرنساوية وكمبانية طليانية في شرايه وتم البيع للكمبانية الطليانية وعند تحقق الكمبانية الفرانساوية فوت الغرض طلب قنصل فرانسا منا أن لا نعنرف بصحة ذلك البيع ولما لم يكن ذلك سايغا لا بمقتضى المعاهدات ولا شروط الطريق نفسها ولا بغير ذلك لم نسعف لذلك فتوغر صدره من ذلك وانتصب يتربص الدواير واخذ يتعاطى في أسباب التحجير وذلك أن أول ما عرضه مطلب في صورة نصح نبرأ إلى الله تعالى من فعله ولو بلغ بنا الحال ما بلغ إذ هو أمر يعظم على المسلم سماعه فضلا عن فعله وهو أن ندخل تحت حماية فرانسا ولا نخشى بعد ذلك غائلة إحدى الدول واتى لنا بشروط ناولنا إياها فلم نقبل منه ذلك ولو لمجرد النظر فيها وألحّ علينا في ذلك فأجبناه بان هذا لا يمكن سماعه فضلا عن قبوله فلما يئس بعد الإلحاح من الإجابة لمطلبه اخذ يقترح علينا اقتراحات منها انه اقترح علينا أن نمنح للكمبانية الفرنساوية المرخص لها عمل طريق حديد جندوبة عمل طريق حديد أخرى من تونس للساحل وآخر إلى بنزرت وانه مهمى طلب احد عمل طريق حديد داخل المملكة لا نمنحه إياه إلا بعد عرضه على الكمبانية الفرنساوية وتسليمها فيه وان نرخص لهم في عمل مرسى بتونس وتهدّد بالقوة البرية والبحرية فاقتضى الحال إسعافه ثم طرأت نازلة أخرى وهي أن السيد خير الدين باشا عرض أملاكا له للبيع منها النفيضة وهي هنشير متسع تسكنه قبائل مختلفة من الأعراب وبه عدة قرى فرغبت جماعة من الأهالي في شرائها متحملين غيرها تبعا لها وكاتبوه يرغبون منه ذلك فورد جوابه بأنه تعاقد مع السوستي مرسلين في تلك الأملاك وحينئذ وقع الإعراض عن السعي ممن ذكر فيها وعندما تم البيع قام نفر انقليزي يسمى يوسف ليفي بالشفعة في هنشير النفيضة لكونه يملك قطعا بداخله وسجل شفعته على الوجه الشرعي وحيث كان كل من المشترى والشفيع داخلين في تملك ما لا ينقل تحت أحكام شرائع البلاد كانت هاته النازلة من النوازل الشرعية لا دخل للحكومة فيها فلاح من قراين الأحوال ومن التصريحات الصادرة من جماعة الفرنسيس ونائب دولتهم بهذا الطرف أنهم اعتقدوا أن ذلك بسعي من الحكومة من أن ليفي من رعايا دولة لها معاهدة معنا في ملك الربع والعقار كرعايا الفرنسيس وله ملك بداخل المحل يسوغ له هو والطريق الموصل له الأخذ بالشفعة ويعلم أن الشفيع يلزمه إحضار المال عند تمكينه من المشفوع فيه فحينئذ لا محل للتشكي من الحكومة إذ ليس شيء من ذلك بمكتسب لها واتخذوا هذه الشفعة التي تبين بجنابكم العالي انه لا كسب لنا فيها ولا في أسبابها من جملة دعاوى صوروها لإثبات أن الفرنسيس بهذا الطرف غير محصلين على ما حصله غيرهم من التمتع بالأملاك وأنهم بمقتضى ذلك غير آمنين على متاجرهم وأموالهم مع انّا لم نزل على المعتاد من التسوية بينهم وبين غيرهم في جميع الحقوق وفصل نوازل رعايا دولتهم ومسايستهم بقدر الاستطاعة وتبين أيضا أنهم سلكوا مسلكا آخر في التشكي من جهة الحدود بذكر وقائع يهول سماعها وغاية ما وقع الآن هو ما كان يقع سابقا بين المتجاورين ويقع الانفصال فيه على العادة المعروفة بين العروش المتجاورة فشرعت الجرايد الفرنساوية ولاسيما جرايد الجزائر في الطعن على الحكومة وأعمالها وأعمال رجالها ونسبة وقائع من الخوف على ذوات الفرنسيس بهذا الطرف وأموالهم وتعطيل حقوقهم في الملك ولا يعنون فيما نظن إلا النفيضة وتعطيل متجرهم وغير ذلك من اراجيف اختلقوها منها أنهم أشاعوا أن قنصل فرانسا قتل ثم اكذبوا هذا الخبر بأنفسهم ومنها ان نفرا ادعوا انه ممن يحير عليهم الجزائر يسمى محمد الكبلوتي احد رعاياهم الذين التجأوا لهذه الايالة كانوا اشتكوا منه وسجناه بأنا سرحناه وتوجه لإتمام غرضه مع أن الرجل منذ دخل السجن لم يزل به إلى الآن وقد عاينه به من وجهه القنصل لذلك وانه لم يبق لهم أمن بالحدود إلى غير ذلك من الأراجيف التي يكذبها العيان ولاعتمادنا على معرفة عالي جنابكم واطلاعكم على هذه الأراجيف في الجرنالات والتلغرافات اعرضنا عن أن نشغل فكر جنابكم الرفيع بمثل هذه الأشياء التي لولا ضرورة الحال لم يكن داع لذكرها اما لا مشاع وقوعها شرعا وعقلا وإما لكون الواقع يكذبها ومن ذلك أن جماعة الفرنسيس بتونس جعلوا رقيما يذكرون فيه خوفهم على أنفسهم ومتاجرهم وأملاكهم وثقتهم بالقنصل وسيرته وعرضوه عليه وأجابهم ظاهرا بما يقتضي انهم بالغوا في شكواهم ولما رأينا أنّ السكوت عن تلك التشكيات التي لم تكن مبنية على أساس مما لا يحسن كاتبناه بمكتوب تصل لأبوابكم العالية نسخته عدد1 وبالجملة فقد تمخض نظرهم حيث رأوا أن تلك التشكيات لا تبلغهم إلى مقاصدهم لضعفها بعد أن روجوها في الجرنالات لتهييج الآراء العامة والدولة ضدنا إلى أن يسلكوا مسلكا آخر وهو دعوى التسخير بالحدود ثم التشكي منه وذلك بعد أن ذكروا أن خمير أحد عروش جبل باجة صدر منهم التحيير وبنوا ذلك على أمر معتاد بين العروش المتجاورين لا يخلو الوجود من وقوعه لما جبل عليه كل من الفريقين من السرقات فيما بينهم وشبهها كثير من عربان عروش الجزائر يقدم لهذا الطرف ويتعاطى ذلك وهم إلى الآن موجودون وجرت العادة بين الفريقين بأنهم ينفصلون على وجه متعارف بينهم لتعذر وجود الحجج من الفريقين وبناء عليه وقع فصل جميع نوازل عروش الطرفين المتجاورين في العام الفارط واعتمدوا لمدة قريبة على نازلة صورتها أنّ نفرا توجه لسرقة خيل من احد أماكن الجزيرية فقتله ارباب الخيل وقطعوا رأسه وتركوه طريحا ولما بلغ لاهله ما وقع توجهوا على عادتهم للاتيان بقتيلهم فمكنوهم منه ووقع الكلام بين أهل القاتل والمقتول في الصلح على عادتهم فاتفق فيما بلغنا أن أمّ القتيل حرقت أثاث خيمتين لأهل القاتل كما اعتمدوا أن خمير دخلوا لحدود الجزائر وحاربوا وعظم تنديد الجرايد وتلغرافات مافاس وتهويل الواقع بالتهديد بإرسال شقوف تارة وبالهجوم أخرى وحتى بلغنا ما وقع بخمير بادرنا بتوجيه طايفة من الخيل لنظر كاهية لتحرير حقيقة الواقع وكف أيدي خمير ومن جاورهم من ان تمتد يد احد بسوء واردفناه بطايفة كبيرة من الخيل والعسكر وخرجت اليوم ورئيسها وزير الحرب وتتلوها محلة مركبة من عسكر وخيل وكل ذلك للغرض المتقدم وفي أثناء ذلك أرسل القنصل مترجم القنصلات بكلام شفاهي وبطاقة تضمنها كتابنا الذي خاطبناه به الواصلة لعالي جنابكم نسخته عدد 2 ومع ذلك لم يفتر عزمنا على ما نحن بصدده من تكلف هذه المحلة وكاتبناه بان يعرفنا كتابة بما عرف به شفاها بما تصل جنابكم نسخته عدد 3 فأجاب عنه بما تصل لجنابكم العالي نسخته عدد4 وثم أردفه بمكتوب تصل جنابكم نسخته عدد5 وأجبناه عنه بما تصل جنابكم نسخته عدد6 وبما حرره معظم القدر العالي ومجله يتبين لرفيع جنابه حقيقة الواقع من مقاصد من تقدمت الإشارة إليه ومن براءة الحكومة مما ارجف به المرجفون وقد بلغنا حين الكتب من الكاهية الموجه أولا أن المبتدئ بالمحاربة هم جماعة الجزائر وان جبال باجة والرقبة في راحة وامن ليتقرر علم ذلك بالمعلومات الشريفة لازالت محروسة وان الايالة كلها في راحة غير انه لا يخفى أن أمثال هذه الوقائع مما يشوش الأفكار وأننا سعينا ولازلنا ساعين في تمهيد الراحة ودوامها والمرجو من عالي مقامكم الالتفات لنا في هذه النازلة بما يخفف عنا متاعبها كما هو المعتقد في جلالتكم من الغيرة على هذه الايالة والاعتناء بمعظم قدركم والله تعالى يديم دست الوزارة عاليا وبمآثركم الجميلة حاليا والسلام من معظم القدر العالي ومجله الفقير إلى ربه تعالى عبده المشير محمد الصادق باشا باي وفقه الله تعالى وكتب في 8 جمادى الأولى من سنة 1298هـ/ 8 أفريل 1881م
الدكتور محمد فوزي المستغانمي: أستاذ جامعي مؤرخ جامعة تونس